
يشكل مبدأ التصحيح الذاتي حجر الزاوية في البحث العلمي، إذ يعتمد عليه المجتمع العلمي لضمان الدقة والموثوقية في الأبحاث المنشورة. عملية مراجعة الأقران تظل واحدة من أهم الوسائل لتحقيق ذلك، حيث يتولى خبراء مستقلون تقييم الدراسات بدقة قبل نشرها لتجنب الأخطاء وضمان المستوى العلمي. ومع تزايد أعداد المجلات والأبحاث وتوسع التنافس الأكاديمي إلى جانب تزايد نفوذ الشركات الكبرى، بدأت هذه الآليات تواجه عدة تحديات تؤثر على فعاليتها وتضعف ثقة الجمهور في المؤسسات العلمية.
شهدت السنوات الأخيرة نمواً هائلاً في حجم الأبحاث العلمية بفضل الرقمنة وتنوع التخصصات. هذا التوسع لم يواكبه دوماً تشديد للرقابة، ما فتح الباب أمام استغلال تجاري واضح في المجال الأكاديمي. ظهرت كيانات تتاجر في الأوراق البحثية وتمنح فرص النشر السريع عبر مراجعات سطحية وغير دقيقة، كما تستفيد دور النشر التجارية من رسوم معالجة المقالات ما خلق حافزا لقبول المزيد من الأبحاث بغض النظر عن جودتها. يزداد الأمر تعقيداً عندما تتدخل شركات كبرى لتمويل أبحاث أو كتابتها لصالح توجهاتها، فتظهر أوراق بحثية مزيفة تحمل أسماء أكاديميين مستقلين بينما هي ناتجة عن موظفين تابعين لجهة ذات مصلحة. مثل هذه الممارسات ظهرت بوضوح في قضية دراسة مبيد جليفوسات، حيث كشفت وثائق أن دراسة استُشهد بها عالميا وُضعت من قبل موظفي الشركة المنتجة ونُشرت بمجلة مرتبطة بصناعة التبغ، واستمر تأثيرها رغم كشف الحقيقة لاحقاً.
تعاظم هذه الظواهر دفع لظهور مبادرات مستقلة ومؤسسية لدعم نزاهة البحث العلمي، من بينها مواقع متخصصة في تتبع الأوراق المسحوبة والكشف عن حالات التلاعب بالبيانات، إلى جانب دور الصحافة الاستقصائية في فضح نفوذ الشركات. ومع أهمية هذه الجهود إلا أن أثرها يظل محدوداً أمام حجم المشكلة، كما أن الاعتماد الكامل على مراجعة الأقران لم يعد كافياً لضمان الجودة العلمية.
التقدم التكنولوجي أدخل الذكاء الاصطناعي إلى ساحة التدقيق العلمي، ما يفتح الباب أمام ثورة في طرق كشف العيوب. في الماضي كانت التقنيات تركز فقط على اكتشاف الانتحال، لكن اليوم يوجد أدوات حديثة تستخدم الذكاء الاصطناعي لمسح ملايين الرسوم البيانية والنصوص بهدف تحديد التلاعب أو المؤشرات على كتابة الأوراق بشكل اصطناعي. برنامج مثل Proofig يُستخدم لكشف تكرار الرسومات أو تعديلها بشكل غير شرعي، كما الكاشفات اللغوية تحدد التراكيب غير المنطقية الدالة على منشأ غير أصيل للأبحاث. أدوات التحليل الببليومتري تمنح صورة حول كيفية التعامل المجتمعي مع الأوراق البحثية، سواء بدعمها أو الطعن بها، ما يوفر دلالات إضافية على جودتها وأثرها.
مستقبلاً يتوقع أن تزداد قدرة الذكاء الاصطناعي في تحليل ودعم نزاهة البحث العلمي، خاصة في اختبار الاستدلالات الرياضية والمنطقية كما ظهرت في مشاريع تعنى بتقييم البراهين الرياضية بشكل دقيق قد يعجز عنه المراجعون من البشر. توفر هذه التقنيات إمكانية مراجعة شاملة للسجل العلمي في العالم كله وكشف حالات الاحتيال الصريح والأبحاث ضعيفة التأثير أو حتى الأخطاء الشائعة، ما يتناقض كليا مع الصورة المثالية التي يتم تصوير الاكتشافات العلمية بها داخل المجتمع.
بعض الدراسات بيّنت أن قسماً كبيراً من الأبحاث العلمية المنشورة لا يحظى بأي استشهادات، ويعي العلماء ذلك جيدا، بينما تبقى هذه الحقيقة غائبة غالبا عن الجمهور. هذا الواقع قد يقود لاكتشافات صادمة حول حجم الأبحاث التي بلا تأثير حقيقي، وهو ما قد يكون مدخلاً للتشكيك في مصداقية العلم لدى البعض. تكمن الخطورة الأكبر في إمكانية استغلال نتائج التدقيق الشامل باستخدام الذكاء الاصطناعي ضمن حملات تضليل ممنهجة، حيث يمكن تضخيم نتائج النقد أو كشف الإخفاقات لتدعيم مزاعم فقدان العلم لمصداقيته، خاصة مع اعتقاد الجمهور في حيادية وكفاءة أدوات الذكاء الاصطناعي.
المفارقة الحقيقية أن أدوات الذكاء الاصطناعي التي يفترض بها تعزيز النزاهة والموثوقية العلمية قد تتحول إلى جزء من حملات تقويض الثقة في المؤسسات العلمية عندما توظف بشكل منحاز أو انتقائي، كما قد تُستخدم لإنتاج محتوى زائف أو دعم سرديات خادعة.
أمام هذا المشهد المعقد، تبدو الشفافية هي السبيل الأساسي للحفاظ على ثقة الجمهور في العلم. على المجتمع العلمي أن يبادر بنفسه للكشف عن أوجه التقصير أو العيوب وأن يكون مستعدا للتعامل مع نتائج التدقيق بوضوح وصراحة. يتطلب هذا تغييرا في الصورة النمطية للعالِم، إذ لا يصح إبقاء أسطورة البطل صاحب الاكتشاف العظيم بل يجب إبراز دور العالِم كجزء من جهد جماعي متدرج يهدف لتطور الفهم، مع الاعتراف أن الأغلبية من الأعمال العلمية هي جهود متراكمة تدريجية في التعليم والإرشاد والمشاركة المجتمعية. مصدر قوة العلم لم يكن يوما الإدعاء بالعصمة وإنما الاستعداد المستمر للاعتراف بالأخطاء والبحث عن الإصلاح، ويصبح إعلان هذا الاستعداد علنياً الآن مطلبا ملحا لتعزيز المصداقية في عصر الذكاء الاصطناعي.